قامات تربوية (2) - 1 يونيو 2016
2021-10-11 679
أشرتُ في مقالي السابق، عن القامات التربوية، إلى عددٍ من الأساتذةِ الكبارِ الذين رسخوا في الذاكرة لما كان لهم من علميةٍ مميزةٍ، وموسوعيةٍ ثقافيةٍ، وتمكنٍ تربويٍّ، وقدرة على صناعةِ طلابهم صناعةً تجعلُ منهم رموزًا مرجوَّةً في مجالاتِ تخصصهم.
وأحبُّ في هذا المقال أن أذكر نماذجَ أخرى مازالتْ حيةً في الذاكرة.
من هؤلاءِ فضيلة الشيخ الجليل الدكتور علي بكر الكنوي المدرسُ بالمسجدِ الحرامِ وبكلية الشريعةِ، كان الرجلُ عالمًا جليلًا متضلِّعًا من علوم الشريعةِ، وكان مع هذا صاحبَ أسلوبٍ جذابٍ مؤثرٍ، وكان صديقًا للوالد رحمهما الله، وكنتُ أحضر دروسه في الحرم المكي وأنا في المرحلة الابتدائية، وأذكر أنه فسر لنا مرةً سورة الأحزابَ تفسيرًا عجيبًا، أجادَ فيه الوصفَ حتى كأننا نرى المعركة أمام أعيننا! كأننا نشاهدُ (فيلما)! وما تزال أحاديثه ودروسه عالقةً بالذهنِ بصوتِهِ المميزِ ووقاره المهيبِ.
وأذكرُ من أعلام أساتذتنا العالم الدكتور زكي إبراهيم، أستاذ الرياضيات الفيزيائية، ورياضة الكون والمجرةِ بجامعة القاهرة، كان هذا الرجل مدهشًا في ضبطِهِ للأرقام والحساباتِ الرياضية والفلكية، وكانت ميزته الكبرى أنه كان يبعثُ فينا روح الاعتزازِ في غير كبرٍ، والافتخار بإسلامنا وعروبتنا من غير غرور، كان يؤكد لكل واحدٍ منا أنه ليس أقل شأنا من ذلك الطالب الأوروبي، أو الباحث الأمريكي، بل نحن -كما كان يعلمنا- أفضل منهم لأنّ لدينا جانبًا روحيًا يفتقدونه.
وفي مرة من المراتِ أقام طلابُهُ معرضًا في جامعة الملك عبدالعزيز عن المجرات والكواكب، أعدوا كل تجهيزاته ووقفوا عند أركانه يشرحون للزوار، وكانت هناك لوحاتٌ تبيّن سرعةَ بعض الكواكب والأجرام، فقال أحد الزوار للطالب الواقف عندها: هذه الأرقام اكتشفها الغرب، فلما سمع د. زكي هذه الكلمة قال للزائر: أنا أدرّس هذه المادة، وطالبي هذا يستطيع أن يحسب لك سرعة أي نجم تريدُهُ!
ومن طرائقه في زرع الثقة أنه كان يمنع أيَّ طالبٍ من مقاطعة زميله عند حديثه، حتى لو بدا له أن في حديث زميله خطأ، فإن عليه أن ينتظر حتى يفرغ، ثم يتكلم. بل كان لا يسمح حتى برفع اليد أثناء حديث الزميل، ويقول لنا: حين ترفع يدك قبل أن ينتهي فكأنك تقول له: كلامك لا يعجبني، وغير صحيح، ولديّ أنا الصواب!
أي ثقة غرسها في طلابه رحمه الله وأعلى قدره.
ولست أنسى كذلك الدكتور عصام الحسيني أستاذ الإحصاء الرياضي بجامعة أسيوط، ذلك الأب الحريص، الذي كان يأخذ بيدي شخصيًا إلى المكتبة، فيطلعني على الكتب والمراجع والأبحاث وأوراق العمل ويناقشني فيها، ويبين لي كيف كتَبَ هذا، وكيف ألَّف ذاك، وكيف نُوقشتْ هذه المسألة، وكيفَ بُرهِن على هذه.. وهكذا. كل هذا وأنا لستُ من طلابِ شعبتِهِ! ولكنه حرصه على كل من توسّم فيهم خيرًا.
هذه صفحاتٌ من الذاكرةِ، تشهدُ لأولئك الأعلام، ولكل أستاذٍ مخلصٍ، بأن الأجيال لا تنسى، وبأنَّ التعليمَ الحقَّ يبقى أثرُهُ وإن ارتحل صاحبه.
الله ارحم معلمينا وأساتذتنا واجزهم عنا خير الجزاء.